الثلاثاء، 5 يناير 2010

ترى .. ما الذي تبدل حتى تتبدل المواقف من قضية الجنوب اليمني؟ احمد عمر بن فريد

ترى .. ما الذي تبدل حتى تتبدل المواقف من قضية الجنوب اليمني؟
احمد عمر بن فريد
القدس العربي

04/01/2010

لا اعتقد أن الجهل بحقيقة ما حدث ويحدث في الجنوب من قبل بعض النخب السياسية والإعلامية العربية يمثل العامل الرئيسي الحاسم لجهة تبلور وجهة نظر محددة يتم التعبير عنها بإجحاف في حق الجنوب وشعبه وقضيته العادلة بين الحين والآخر . إذ لا بد وان هناك حسابات أخرى قد تكون السبب الرئيسي الذي يدفع هؤلاء جميعا للحديث بشكل اقل ما يقال عنه بأنه (ظالم) تجاه الجنوب وحقه الطبيعي في استعادة دولته السابقة وفك ارتباطه مع دولة أخرى أخلت تماما بجميع اتفاقيات الوحدة وحرفتها عن مشروعها العظيم إلى مشروع آخر لا علاقة له بأبسط معانيها ومفاهيمها الكبيرة . وإذا كانت الصور الثابتة والمقاطع المتحركة التي التقطت للاحتجاجات الجنوبية الشعبـــية الكبيرة في ساحات النضال السلمي، والتي بثتها بعض القنوات الفضائية العـــربية على مضض، قد أسقطت عمليا تسطيح التعريف (العبيط) للحــراك الجـــنوبي بأنه عبارة عن مجموعة قليلة من (الزعران) كما قال احدهم ذات مـــرة، فان أسباب أخرى غير منطقية باتت تطرح من قبل البعض لتبرير إصرارهم على توصيف الوضع في الجنـــوب بذلك الشكــل المجحـــف غيـــر الموضوعي، وهو أمر يدعو للاســتغراب والدهشـــة، خاصـــة وان مــثل تلك الآراء التي تكرر ظهورها علينا تأتي عبر صحف عربية كبيرة لكتاب كبار.
في هذا الإطار نود ان نذكر بحقيقة ان الحرب التي دارت رحاها عام 1994م ليست بعيدة بمقياس الزمن عن وقتنا الراهن، كما ان أسبابها الرئيسية لا زالت ذات صلة وثيقة بجوهر القضية ولبها ... فما بني على باطل فهو باطل، وما كان الخطأ لينتج صوابا في جميع الأحوال، أو أن الباطل يمكن أن تتخلق في رحمه قيم الحق والأخلاق والفضيلة . ومن زاوية أخرى نود أن نشير إلى أن الأغلبية الساحقة ممن عايشوا أحداث الحرب او شاركوا فيها او شهدوا وتابعوا تفاصيلها لا زالوا حتى اللحظة على قيد الحياة، ولا زالت مواقعهم (الحكومية والمهنية) على اختلاف تخصصاتها ثابتة ولم تتغير باعتبار الثبات في المواقع الرسمية سمة عربية أصيلة.. غير ان المتغير (العجيب) في هذه القضية هو ان التعريف للحدث وتداعياته لدى هؤلاء قد تغير ! والرؤية لما يحدث أيضا قد تبدلت و تصوراتهم للحلول تقلصت وتقزمت ... وكأنما وان تلك الحرب التي دارت رحاها صيف 94م لم تكن قد نشبت مابين الجنوب والشمال، وإنما هي حرب حدثت في منطقة أخرى بعيدة عن صنعاء وعدن، او أنها حرب ذات طابع قبلي ليس لها علاقة بالوحدة اليمنية او ليس لها صلة بطرفي النزاع ... صانعي وحدة 22 ايار/مايو 1990م.
بألم شديد وبقراءة متأنية طالعت مقالة سياسية لأحد الكتاب العرب المعروفين حول ما يحدث حاليا في اليمن، وعلى الرغم من اعتراف الكاتب بوجود مشكلة سياسية اسماها بـ (قضية الجنوب) إلا ان توصيفه للحل المقترح لم يتجاوز حــــدود منــح (صلاحيات إدارية أوسع ) للجنوبيين، واصفا الفريق الذي يمكن ان يقبل بمثل هذه الحلول بأنهم 'رجال دولة وعقلاء ' أما أولئك الذين يطالبون بالانفصال على حد تعبيره فهم متطرفون ولا ينبغي لأحد ان يخضع لمطالبهم.
تجاه مثل هذا المنطق (الغريب العجيب)، نود ان نطرح رأينا بكل وضوح وصراحة مدعما بالحجج والبراهين وشرف الدفاع عن هوية وتراب وتاريخ الوطن الذي يستكثره علينا البعض ولا يفهمه البعض الآخر إلا عبر مصالحه السياسية .. ومن هذا الباب نود ان نؤكد لهؤلاء جميعا، ان النظر إلى حقيقة ما يحدث حاليا في الجنوب بمعزل عن الأزمة السياسية والحرب التي حدثت صيف عام 1994م، وما ترتب عليها من مواقف عربية ودولية، يعتبر تعسف وهروب من الحقيقة والتفاف على جوهر القضية ولبها.
ومن جانب آخر نود أن نشير إلى أن الجدل والحوار المنطقي حول القضية الوطنية الخاصة بالجنوب، ليس عصيا على العقل (العربي) - إذا ما أراد الفهم - وفقا لقواعد المنطق وشروط الموضوعية المتجردة من خلط الثوابت بالمتغيرات، إذ أن القضية الوطنية للجنوب سهلة وممكنة الفهم إذا ما أدرك العاقل ان جوهر الأزمة في شقها السياسي يعود في منبعه الأساس إلى ان تلك الأزمة التي حدثت في السنتين الثانية والثالثة للوحدة اليمنية، تتلخص في تعرف الشريك الجنوبي على (الحقيقة المؤلمة) المتجسدة في وجود نية ورغبة لدى الطرف الشمالي تستند إلى فهم تاريخي متخلف يقول بأن هذا (الجنوب) إنما هو فرع لـ (الشمال)، وان هذا (الفرع) قد عاد إلى (الأصل) بفعل الوحدة الطوعية الاندماجية، وان الناتج المتوقع والمخطط له بحسب هذا الفهم القاصر يقتضي ابتلاع (الجنوب) بكل ثرواته ومقدراته وتاريخه وإخضاعه لسلطة النظام السياسي للجمهورية اليمنية (الجمهورية العربية اليمنية). وأما اتفاقية الوحدة الموقعة بين الطرفين بجميع بنودها وما تقتضيه معاني الشراكة الوطنية مابين دولتين وشعبين والخيار الديمقراطي ووحدة العلم والنشيد الوطني لم تكن تعني لدى تلك القوى التي كانت ولازالت تحكم صنعاء سوى (وسائل وأدوات) لازمة لتحقيق كل ذلك.
كانت تلك هي الحقيقة المرة التي تعرفت عليها القيادة السياسية الجنوبية بالسرعة المتوقعة، بحكم مراكزها القيادية وقربها من مواقع و مراكز القرار في نظام صنعاء، وبفعل التعامل اليومي المباشر لها مع شركائها في الشمال خلال المرحلة الانتقالية للوحدة، فكان من الطبيعي ان تدرك بشكل مبكر ان مسار الوحدة قد اتجه نحو مفاهيم وإجراءات (الضم والإلحاق) وان الجنوب وشعبه ودولته وهويته وتاريخه وقيمه وثقافته قد أخذت طريقها نحو (الابتلاع والطمس الكامل الممنهج)، ومن هنا كانت الأزمة السياسية وكانت الحرب وكان قرار (فك الارتباط) يوم 21ايار/ مايو 1994م محصلة طبيعية لكل ذلك وتصرف سياسي طبيعي من قبل القيادة السياسية للجنوب في ذلك الوقت.
ان الأزمة السياسية في تلك المرحلة المبكرة للوحدة، كانت تعكس (رفض) الجانب الجنوبي الواقع المر الذي أصدمت بحقيقته، بينما كانت الحرب تمثل (رفض) الجانب الشمالي للموقف الجنوبي الرافض للواقع الجديد الذي كانت صنعاء تريد ان تفرضه على عدن . فكانت (القوة العسكرية) هي الخيار البديل لفرض الأمر الواقع، ووسيلة أخرى لتمرير ما لم تستطع صنعاء ان تمرره على الجنوب بوسائل الوحدة الطوعية ... والنتيجة الطبيعية لكل ذلك الفعل هو (اغتصاب) الجنوب وإخضاعه بالقوة العسكرية المحضة لسلطة ( الجمهورية العربية اليمنية )، وهو خيار امثل جاءت به الظروف السياسية كما كانت صنعاء تحلم وتريد، خاصة وان تلك الحرب قد سارت بصورة سلسلة وسهلة تمكنت خلالها قوى الشمال (الحكومية والقبيلة) ان تخوضها وتنهيها بنجاح وبســرعة غير متوقعة، مستغلة في ذلك جميع التناقضــات (الجنوبية الجنوبية) التي كانت سائدة وحاضرة ومؤثرة على سير الأحداث السياسية والعسكرية معا في تلك الحقبة .
ان الفترة الزمنية الممتدة مابين 7 / 7 / 1994م وهو يوم انتهاء العمليات العسكرية لجيش (الجمهورية العربية اليمنية) تجاه دولة الجنوب وحتى خروج الشعب الجنوبي إلى الشارع في ثورته السلمية الحالية الرافضة لواقع الحال يوم 7 / 7 / 2007 م، تعتبر الفترة الزمنية اللازمة لكي يثبت لجميع (أبناء الجنوب) بالدليل القاطع، صحة ما طرحته قياداته السياسية وخوفها على مستقبل الوحدة في مرحلة الأزمة التي سبقت الحرب، إذ كان على المواطن الجنوبي خلال تلك المرحلة أن يتجرع يوميا سلوكيات (نهج الاحتلال) الذي طال جميع مصالحه ومقدراته، والذي قوض هويته وتاريخه وتواجده وحتى كرامته فوق ترابه الوطني بشكل منهجي ومخطط له ! وكانت تلك الفترة الطويلة تحتضن في النفوس وبشكل يومي - تراكمات كثيرة للشعور بالغبن والظلم والإجحاف الجماعي، وحتى خيبة الأمل من ممارسات الأخ الشقيق الذي توحد معه الجنوب بحسن نية في لحظة انفعال وحماسة عروبيه طاغية. وكان على أبناء الجنوب لمواجهة ذلك الواقع المر، الانفراد ببعضهم في (مقايل القات) اليومية للتعبير عن شكواهم ومظالمهم، ولتبادل المستجد من ممارسات البطش والضم والإقصاء، وللتشاور فيما يمكن فعله للخروج من ذلك النفق المظلم .
كان كاتب المقال احد الذين عايشوا تلك المرحلة الصعبة، واحد الذين عايشوا (تفاصيل التفاصيل) لجميع ممارسات الظلم والبطش والطغيان، وكان عمود الأربعاء الأسبوعي الذي كنت اكتبه بجريدة (الأيام) العدنية يمثل شاهداً حقيقياً على حوادث كثيرة، كما ان تلك الفترة الحرجة أتاحت لي شخصيا ولغيري ممن عايشوها، مراقبة الكيفية التي تفسخت فيها قيم الوحدة بشكل تدريجي من الوجدان الجماعي لأبناء الجنوب جراء ما عانوه من الم وقهر وظلم وتهميش واعتداء من قبل شركائهم في مشروع الوحدة اليمنية... ويمكنك عزيزي القارئ الكريم ان تتخيل ردة الفعل لدى أبناء الجنوب كيف يمكن ان تكون، حينما تعلم ان العدوان بحسابات الربح والغنيمة قد بلغ حد استباحة المقابر الجماعية ونبش رفات شهداء الصراعات السياسية السابقة في الجنوب للبسط على الأراضي من جهة ولفتح ملفات الصراعات (الجنوبية - الجنوبية) من جهة اخرى إذكاء للفتنه وإحياء للأحقاد والمآسي التي أهال عليها الجنوبيون التراب .. أولا يعتبر مثل هذا النهج منتميا في الأساس إلى القاعدة الاستعمارية 'فرق تسد'
وإذا كان هذا هو سلوك وممارسات السلطة الحاكمة في صنعاء وحزبها الحاكم ومؤسساتها العسكرية والمدنية والقبيلة معا، فان موقف أحزاب المعارضة للأسف الشديد لم يكن أكثر رأفة بالجنوب وأبناءه من أعضاء الحزب الحاكم ومن دار في فلكه ..إذ لم يشفع (الدين) وقيمه الأخلاقية أو حتى (السياسة) بحسابات الربح والخسارة لنخب الشمال في المعارضة المتأسلمين منهم و القوميين (البعثيين أو الناصريين) أن يتقوا الله في شعب الجنوب أو أن يقولوا كلمة حق في مصير تلك الوحدة التي فتحت عليهم أبواب الفرج من كل حدب وصوب، في مقابل أبواب المآسي والكوارث لشركائهم من أبناء الجنوب.
وللتدليل على ذلك نجد انه في اليوم الذي وقعت فيه أحزاب اللقاء المشترك وثيقة للحوار الوطني مع الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) تخص سبع قضايا رئيسية وكان ذلك يوم 16 / 6 / 2007 م، جاء الحديث حول (القضية الجنوبية) في جزئية صغيرة تتبع البند السابع والأخير من قضايا الحوار المتفق عليها، وما كان الأمر ليكون كذلك لولا فعل الضغط الشديد الذي مــــورس من قبل الجناح الجنوبي في الحزب الاشتراكي اليمني تجاه شركاءه في أحزاب اللقاء المشترك، ولأن الله لا يريد للحقيقة ان تتوه في مرحلة لاحقة فقد أربك المشترك والحاكم معا في نص تلك الجزئية الأخيرة التي تعاطت باستعلاء وغطرسة وتسطيح مع قضية وطن وشعب، إذ لم يتجاوز هذا التعاطي حدود اعتبار (القضية الجنوبية) قضية حقوقية لا علاقة لها بالسياسة.. ! وقد جاء في نص الوثيقة الموقعة وفي الجزئية الأخيرة من فقرتها الأخيرة ما يلي : ' بشأن ما يطرحه الحزب الاشتراكي اليمني وأحزاب اللقاء المشترك بخصوص آثار حرب 94م، يتم بحثها في مستوى آخر وفقا للمقترح المطروح من الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم)، في المحضر رقم (2) بتاريخ 24 / 3 / 2007 م باعتبارها قضية حقوق، على ان يتم الاتفاق على الآلية المناسبة لتنفيذ ذلك.
أما الإرباك الذي حصل في النص والموقف فيمكن ملاحظته بسهولة في عبارة 'بشأن ما يطرحه الحزب الاشتراكي وأحزاب اللقاء المشترك' .. وكأنما الحزب الاشتراكي لم يكن عضوا في أحزاب اللقاء المشترك .. وإلا كيف يمكن تفسير تلك العبارة الغامضة خارج سياق الارتباك الحاصل يومها والمصحوب بعدم وجود الرغـــبة او النية الحقيقية لدى الطرفين في بحث القضية الجنوبية كما يجــــب وكما كان يقتــضي الأمر؟ ... وعلى كل حال فقد أنبرى للرد على ذلك الموقف أكثر من خمسمئة مثقف جنوبي، بادروا إلى إصدار بيان إدانة ورفض للموقف ككل، وكان ذلك في البيان الذي نشرته جريدة (الأيام) الغراء تاريخ 23 / 6 / 2007 م، الذي طالبوا فيه النظر للقضية الجنوبية باعتبارها قضية سياسية لا قضية حقوقية فقط، وكان يمكن للجنوب حتى في تلك المرحلة المتأخرة ان يقبل التعاطي مع ملفه الوطني فيما لو تم التعامل معه بإنصاف ... ولا اعتقد ان المعارضة ممثلة بأحزاب اللقاء المشترك كانت بحاجة ماسة إلى ثلاث سنوات أخرى حتى تدرك ان القضية الجنوبية هي قضية سياسية في الأصل وتعترف بذلك مؤخرا كما جاء في نص وثيقة الحوار الوطني التي أطلقت مؤخرا .

القضية الجنوبية

مثلت القضية الجنوبية أخطر وأبرز مظاهـــر الأزمة الوطنية الملتهبة، ففي مجرى هذه الأزمة وتداعياتها نشأت حالة غليان جماهيرية غير مسبوقة في المحافظات الجنوبية، فتبلور هذا الغليان في حراك سياسي واجتماعي، راح يطــــرح بقـــوة موضوع القضية الجنوبية، كرد فعل طبيعي لفشل السلطة في إدارة مشروع الوحدة، وتحويله من مشروع وطني ديمقراطي إلى مشروع للغلبة الداخلية، واعتماد نهج الحرب، واستخدام القوة في الإطاحة بالشراكة الوطنية والاستئثار بالسلطة، والثروة، بما في ذلك إشاعة (ثقافة الربح)، ونهب الممتلكات العامة والخاصة في المحافظات الجنوبية على نطاق واسع.
على أن الدافع الحقيقي لبروز القضية الجنوبية يكمن في النتائج والآثار المترتبة عن حرب صيف 1994م، وفي الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ولدتها سياسات السلطة الانتقامية ضد المشروع الوطني الوحدوي، وممارساتها المتبعة في المحافظات الجنوبية منذ نهاية الحرب وحتى الآن، إذ إن السلطة نظرت إلى انتصارها العسكري في 7/7/1994م، باعتباره المنجز الأخير لاكتمال التاريخ أو نهايته، وأنها منذئذ غير مضطرة لتقديم مشروع سياسي وطني يأخذ بعين الاعتبار تصفية آثار الحرب، ومعالجة جروحها والسير بالبلاد قدما نحو تنفيذ مضامين الاتفاقيات الوحدوية، وبخاصة ما يتصل منها بالاتجاهات المتعلقة ببناء دولة القانون، القائمة على مؤسسات وطنية قوية، وعلى رعاية حقوق المواطنة المتساوية، وتحويل المشروع الوحدوي الديمقراطي إلى مصدر لإنتاج مصالح جديدة للمواطنين بمختلف فئاتهم وشرائحهم، وكذا انتهاج سياسات فعالة لتعزيز وشائج الإخاء الوطني، وإجراء عملية تأهيل واسعة لليمن الموحد والكبير تساعده على تحقيق الاندماج الوطني والاجتماعي بصورة موضوعية.
إن الممارسات والإجراءات التي نفذتها السلطة في المحافظات الجنوبية منذ ما بعد حرب 1994م وكجزء من سياساتها التدميرية التي حلت بالبلاد عموما، إنما تقوم بالدرجة الأولى على التراجع عن مضامين الاتفاقيات الوحدوية، فبدلا من الأخذ بالأفضل من تجربة الشطرين، أخذت بالأسوأ، وقضت على أفضل ما كان عندهما، كما عملت على تكريس نزعة الهيمنة والإقصاء، وإعادة قولبة الأوضاع في الجنوب وكأنه مجرد جغرافيا بلا تاريخ، وبلا خصائص سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، نشأت وتبلورت في فضاء الهوية اليمنية على مدى فترات زمنية طويلة.
لقد أفرزت الحرب والسياسات الرسمية اللاحقة لها وضعا عاما يتسم بالانقسام الرأسي القائم على التمييز ضد أبناء المحافظات الجنوبية، واعتماد مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى تدمير التراث السياسي، والإداري، الذي كان ينبغي أن ينظر إليه باعتباره جزءا من الموروث الوطني اليمني، ومن الخبرات المتراكمة، التي اكتسبها اليمنيون في سياق تجاربهم التاريخية، حيث راحت السلطة ـ وبعقلية الغلبة البدائية ـ تدمر جهاز الدولة الجنوبية السابقة، وتلغي تراكمات خبراته، وتسرح عشرات الآلاف من موظفيه المدنيين والعسكريين، دون مراعاة للحد الأدنى من حقوقهم المشروعة، وجرى خصخصة مؤسسات القطاع العام من خلال عملية نهب واسعة كان المتنفذون هم المستفيد الوحيد منها، وقذف بالعــــاملين فيــها إلى سوق البطالة بدون حقوق، وبالمثل طرد الفلاحون من أراضيهم، وصودرت مزارع الدولة، وأعيد توزيعها على حفنة من المتنفذين، ونهبت أراضي الدولة لصالح فئة صغيرة من كبار المتنفذين، وعلى حساب الاحتياجات الاستثمارية والسكنية، في حين كان مواطنو المحافظات الجنوبية المستبعد الأكبر فيها، وتجاوز الأمر ذلك إلى نهب أراضي وممتلكات خاصة لأعداد كبيرة من المواطنين، وإلى إخضاع المحافظات الجنوبية لإدارة عسكرية وأمنية صارمة، ما أدى إلى تهميش دور الإدارة المدنية، كما مورست الكثير من إجراءات التصفية، والانتقام السياسيين وأشيعت حالة مفتعلة من الفوضى، ومن الانتهاكات للقانون، وتعمد إحياء مختلف أنواع النزاعات، والعصبيات القديمة (سياسية وقبلية وجهوية).
وبدلا من أن تقوم السلطة بتوفير المصالح والخدمات التي تطلع المواطنون إلى نيلها في ظل دولة الوحدة، راحت تضرب شبكة تلك المصالح التي اعتاد مواطنو المحافظات الجنوبية على قيام الدولة بتوفيرها لشرائح واسعة منهم، وتراجعت الكثير من الخدمات التي كانوا يحصلون عليها، وأهين تراث المواطنين الجنوبيين ورموزهم عمدا، وطمست المعالم المجسدة لشراكتهم في الوحدة كجزء رئيسي من شراكتهم الوطنية، وتحولت الوحدة من قضية وطنية نبيلة ربطوا أحلامهم وتطلعاتهم بها إلى تهمة يومية تلاحق الكثيرين منهم في حلهم وترحالهم بينما لم يتوقف الإعلام الرسمي عن استخدامها كوسيلة لتوجيه الإهانات وممارسة القتل المعنوي ضد المواطنين في الجنوب بدون استثناء.
ان عملية إجراء مقارنة سريعة لموقف أحزاب اللقاء المشترك من (القضية الجنوبية) يوم 16 / 6 / 2007 م والمتمثل في تلك الجزئية الخجولة التي تحدثنا عنها والتوصيف الحالي للقضية الجنوبية بموجب وثيقة الحوار الوطني التي منحت القضية المرتبة رقم (1) من القضايا الرئيسية في المشهد السياسي ككل يقودنا الى مجموعة من الحقائق يمكن الحديث عنها بما يلي:
1 ) لقد تم الحديث بشكل صريح وعلني ولأول مرة من جانب طرف سياسي شمالي على ان بنود اتفاقية الوحدة لم يتم تنفيذها من قبل السلطة الحاكمة في صنعاء، اي ان الإخلال باتفاقية الوحدة هو فعل حدث من قبل الشريك الثاني في الوحدة اي من قبل (الجمهورية العربية اليمنية) وليس من قبل الجنوب.
2 ) لقد تحدثت الوثيقة وأكدت ما تحدثنا عنه من في الأسطر السابقة عن وجود نية مسبقة جهة (ابتلاع الجنوب) باعتباره كفرع عاد إلى الأصل.
3 ) ان هذا الاعتراف الذي كان عصيا جدا على نخب الشمال في المرحلة السابقة لم يأتي بفعل صحوة ضمير وطني للأسف الشديد وإنما جاءت بفعل الضربات الموجعة التي سددها الحراك الجنوبي للمنظومة السياسية لدولة الجمهورية العربية اليمنية من خلال خروجه الى الشارع وتقديمه في سبيل ذلك سلسلة من الشهداء والجرحى والمعتقلين اللذين لازالوا أسرى سجون صنعاء المظلمة سعيا نحو الانفكاك من العبودية وتوقا الى تحقيق الاستقلال .. وإزاء ذلك فانه لا يمكن للمنطق وللعاقل الحصيف ان يقبل بجدلية ان الفترة القصيرة جدا الواقعة ما بين 16 / 6 / 2007 م وهو تاريخ اليوم الذي تم فيه التوقيع على وثيقة الحوار ما بين الحاكم واللقاء المشترك والذي تناول وعرف فيها القضية الجنوبية بذلك التسطيح والاستخفاف، واليوم الذي أصدرت فيه أحزاب اللقاء المشترك وثيقتها الوطنية الأخيرة قبل أشهر، والتي اعترفت فيها بالقضية الجنوبية كما هو واضح اعلاه، كانت هي الفترة المطلوبة لكي تبصر الأعين وتدرك الضمائر للمعارضة الشمالية بجميع فئاتها ما حدث ويحدث في الجنوب؟... كيف يمكن القبول بذلك وهي كانت جزءاً وشريكاً اساسياً ساهم بدور كبير في الفعل السياسي طوال تلك الفترة!! والأدهى والأمر من كل هذا انها كانت ومن خلال شخصيات كثيرة وكبيرة فيها جزء لا يتجزء من مجموعة (القوى المتنفذة) التي استباحت الجنوب بعد نهاية الحرب.
إن هذا الفهم القاصر لطبيعة القضية الجنوبية كلف أبناء الجنوب أكثر من سبعين شهيداً ومئات الجرحى ومئات المعتقلين السياسيين أثناء ثورته السلمية الحالية، والأهم من كل ذلك ان (الكل الجنوبي) بعد كل تلك الفترة الزمنية الطويلة، وبعد العناء والمماطلة في فهم قضيته السياسية كما ينبغي، قد حدد مطلبه وهدفه الوطني متمثلا في هدف الاستقلال وفك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية السابقة، ولم يعد الجنوب بكل قواه الوطنية ينظر إلى مثل هذه الوثيقة الجديدة وتلك المبادرات إلا من باب تضييع الوقت ومحاولة شق صف الحراك الجنوبي وإثارة البلبلة في أوساطه و ابهات الق ثورته السلمية المباركة.
منطقيا وعلى أساس الحجج والوقائع المثبتة طرحنا ما سبق ... أما وإذا أردنا أن نتحدث بلغة الأرقام والوقائع التي مورست على الأرض، فانه يمكن للمنصف العربي ان يحصل من اي موقع الكتروني جنوبي على ملفات كبيرة وكثيرة وثقيلة تحمل جميع الأدلة والبراهين الدامغة التي تثبت بما لا يقبل مجالا للشك صحة ما تحدثنا عنه، كما ان هذه الملفات سوف تكتسب مصداقية اكبر لدى المثقف العربي إذا ما علم انها قد تسربت من قبل قوى ومراكز إعلامية شمالية في إطار الكيد السياسي (الشمالي الشمالي) وضمن الإحساس بفداحة ما حدث وما ارتكب في حق الجنوب من أخطاء وكنوع من تبادل الاتهامات فيما بين تلك القوى .
إن مثل تلك الملفات الموثقة، سوف تصدم الوحدوي والمثقف والباحث العربي عندما تضع على مكتبه كمية كبيرة من المعلومات المرة التي توضح كيف تعامل (الشمال المتنصر) مع (الجنوب المهزوم ) في مرحلة ما بعد الحرب، وكيف تم نهب وسلب الأراضي والثروات وحتى الوظائف من قبل أمراء الحرب الشماليين، وكيف استعبد الجنوبي في ثنايا وحدة بدت براقة للخارج العربي والدولي بينما كانت سوداء ومظلمة للمواطن الجنوبي في الداخل، وكيف حدث ان استبيحت مقدرات الجنوب كما كانت تستباح الأوطان والشعوب المنكسرة من قبل جيوش الغزو والسلب في القرون الوسطى وما قبلها .. ويمكن أيضا وبسهولة كبيرة للمنصف العربي ان يقدر الحال والوضع الذي كان يتأمله ابن الجنوب من هذه الوحدة وفقا لطموحاته او تبعا لمخيلة اي حالم وحدوي عربي مثالي، ومقارنة ذلك مع ما انتهى إليه الحال او الحلم الكبير، ثم عليه بعد ذلك في لحظة صفاء مع الضمير أن يقرر مشروعية أو عدم مشروعية ما يراه أبناء الجنوب اليوم من حلول وما يناضلون من اجله.
' كاتب وناشط سياسي جنوبي

قمندان لحج غير متواجد حالياً تقرير بمشاركة سيئة رد مع اقتباس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صور ضالع الصمود

صور ضالع الصمود
عدن عاصمة الجنوب
Powered By Blogger

بحث هذه المدونة الإلكترونية

أرشيف المدونة الإلكترونية

قائمة المدونات الإلكترونية

قائمة المدونات الإلكترونية